الحمد لله القديم بلا غاية، والباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوه، ودنا في علوه، فلا يحويه زمان، ولا يحيط به مكان، ولا يئوده حفظ ما خلق، ولم يخلقه على مثال سبق، بل أنشأه ابتداعا، وعدله اصطناعا، فأحسن كل شيء خلقه، وتمم مشيئته، وأوضح حكمته، فدل على ألوهيته، فسبحانه لا معقب3 لحكمه، ولا دافع لقضائه، تواضع كل شيء لعظمته، وذلَّ كل شيء لسلطانه، ووسع كل شيء فضله، لا يعزب عنه مثقال حبة، وهو السميع العليم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، إلها تقدست أسماؤه، وعظمت آلاؤه، وعلا عن صفات كل مخلوق، وتنزه عن شبيه كل مصنوع، فلا تبلغه الأوهام، ولا تحيط به العقول ولا الأفهام، يُعصَى فيحلم، ويدعى فيسمع، ويقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات، ويعلم ما تفعلون، وأشهد شهادة حق، وقول صدق، بإخلاص نية، وصحة طوية، أن محمد بن عبد الله عبده ونبيه، وخالصته4 وصفيه، ابتثعه إلى خلقه بالبينة والهدى ودين الحق، فبلغ مألكته5، ونصح لأمته، وجاهد في سبيل الله، لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولا يصده عنه زعم زاعم، ماضيا على سنته، موفيا على قصده، حتى أتاه اليقين، فصلى الله على محمد، وعلى آل محمد أفضل وأزكى، وأتم وأنمى، وأجل وأعلى صلاة صلاها على صفوة أنبيائه، وخالصة ملائكته، وأضعاف ذلك، إنه حميد مجيد.
أوصيكم عباد الله مع نفسي بتقوى الله، والعمل بطاعته، والمجانبة لمعصيته، وأحضكم على ما يدنيكم منه، ويزلفكم لديه، فإن تقوى الله أفضل زاد، وأحسن عاقبة في معاد، ولا تلهينكم الحياة الدنيا بزينتها وخدعها، وفواتن لذاتها، وشهوات آمالها، فإنها متاع قليل، ومدة إلى حين، وكل شيء منها يزول، فكم عاينتم من أعاجيبها، وكم نصبت لكم من حبائلها، وأهلكت من جنح إليها، واعتمد عليها! أذاقتهم حلوًا، ومزجت لهم سُمًّا، أين الملوك الذين بنوا المدائن، وشيدوا المصانع، وأوثقوا الأبواب، وكاثفوا الحجاب، وأعدوا الجياد، وملكوا البلاد، واستخدموا التلاد، قبضتهم بمحملها1، وطحنتهم بكلكلها2، وعضتهم بأنيابها، وعاضتهم من السعة ضيقا، ومن العزة ذلا، ومن الحياة فناء، فسكنوا اللحود، وأكلهم الدود، وأصبحوا لا ترى إلا مساكنهم، ولا تجد إلا معالمهم، ولا تحس منهم من أحد، ولا تسمع لهم نبسا، فتزودوا عافاكم الله، فإن أفضل الزاد التقوى، واتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون، جعلنا الله وإياكم ممن ينتفع بمواعظه، ويعمل لحظه وسعادته، وممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولوا الألباب إن أحسن قصص المؤمنين، وأبلغ مواعظ المتقين، كتاب الله، الزكية آياته، الواضحة بيناته، فإذا تلي عليكم فأنصتوا له، واسمعوا لعلكم تفلحون، أعوذ بالله القوي، من الشيطان الغوي، إن الله هو السميع العليم، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} ، ثم قال:
نفعنا الله وإياكم بالكتاب الحكيم، والوحي المبين، وأعاذنا وإياكم من العذاب الأليم، وأدخلنا وإياكم جنات النعيم.
هو أبو حذيفة واصل بن عطاء شيخ المعتزلين، وأحد الأئمة المتكلمين، وكان يلثغ بالراء، يجعلها غينا، فاستطاع بمهارته أن يخلص منها كلامه، خطب يوما عند عبد الله بن عمر بن عبد العزيز والي العراق سنة 126 شبيب بن شيبة، وخالد بن صفوان، والفضل بن عيسى، ثم قفاهم واصل، فارتجل هذه الخطبة وعراها من حرف الراء، وأبدع في القول:
ففضل عبد الله خطبة واصل ... وضوعف في قسم الصلات له الشكد
"والشكد بالضم: العطاء"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق